التجارب الملهمة في نهضة الشعوب
إستبدال الامكانيات بتطوير المقدرات
د. طارق عبدالله
كتب توماس فريدمان في «نيويورك تايمز»، أنه عندما يسأل عن أفضل بلد لديه، عدا وطنه، فإنه يجيب: تايوان وتايوان بلد خال من أي موارد طبيعية وأرضه صخرية ويقع في بحر تتلاطمه العواصف من كل جهة، وبحاجة لإستيراد كل شيء حتى الرمل والحصي ، ومع هذا يمتلك رابع أفضل احتياطي مالي في العالم، لأنه إختار الحَفر في عقول أبنائه بحثاً عن الإبداع بدلاً من الحفر في الأرض بحثاً عن المعادن، فالبشر هم طاقته الوحيدة غير الناضبة والقابلة للتجديدويقول إنه وجد إجابة لتفوق تايوان في دراسة لمنظمة مخرجات التعليم في خمسة و ستين دولة في مرحلة الثانوية، مقارنة بما تحققه كل منها من دخل من مصادرها الطبيعية، وأن هناك علاقة سلبية بين الثراء المتحقق من الموارد الطبيعية، كالنفط، وبين مخرجات التعليم وما يحصل عليه الطلاب من معرفة ومهارات، وأن الظاهرة عالمية.
لقد كانت النهضة الصناعية التي أحدثها مهاتير محمد بماليزيا ملهمة، أثبتت للبشرية مقدرات الدين الإسلامي في الإرتقاء بالدول ورفعها من قاع التخلُف إلى قمة التنمية، وحفظ التاريخ أشهر مقولات مهاتير محمد لتأكيد تلك الإمكانيات إذ قال (الدين هو البوصلة التي تُساعد الإنسان في الحفاظ على إتجاهاته السليمة في هذه الحياة، وتحول بينه وبين الهيام على وجهه دون هدف،وأن الغالبية العظمى من المسلمين تعيش في عالم وهمي، يُصَوَّر فيه الضعف على أنه قوة، ويُعَدُّ الإخفاق نجاحاًوإن التنمية الإقتصادية والإجتماعية لا تحدُث بين عشية وضحاها، وعلى الناس أن يتحركوا لإحداثها،والإسلام لا يعلِّمنا أن نكون أنانيين نؤدي العبادات لكسب الأجر لأنفسنا فقط وأن نتجاهل واجباتنا المفروضة علينا لصالح المجتمع الإسلامي).
بهرني مقال للبروفسير فكري شكري عميد عمادة الجودة بجامعة العلوم والتقانة تحدث فيه عن تجربة سنغافورة قال فيه (النهضة السنغافورية لم تكن وليدة اللحظة بل كانت نتائج جهود جبارة من قبل بطل الدولة السنغافورية لي كوان يو فقد ظهر أمام الإعلام وهو ينهش بالبكاء بعد قرار ماليزيا بالانفصال والتخلّي عن جزيرة سنغافورة التي كانت جزء منها فوجهت ماليزيا الصفعة عام ١٩٦٥م للبلد الصغير والفقير ومحدود الموارد سنغافورة. عانت كثيراً سنغافورة من الفساد الإداري والمالي والأمني حيث كانت تُصنف سنغافورة آن ذاك واحد من أخطر الأماكن في العالم لتعرضها للجرائم والسرقات فقد كان يسودها إنفلات أمني بشكل كبير جداً) بدأ لي كوان يو يُغيِّر في أنظمة بلده وسن قوانين جديدة شيئاً فشيء ووضع حاجز للفساد الاداري والمالي لحكومته وشعبه، استطاع لي كوان يو أن يبني نهضة إقتصادية وأن يجعل بلده من أهم بلدان العالم كما كان يحلم حيث إعتمدت سياسته على الإستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الإنساني والصناعي بمجملة شقت سنغافورة طريقها معتمدة على الثروة البشرية وذوي الكفاءات، رأى لي كوان يو أن لا نهضة إقتصادية إلا في إستثمار الفرد ذاته وتأهيله فوضعت مناهج علمية حديثة وركزت على بناء المعلم فهو القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة. يتعدَّى سكانها خمسة مليون ونصف نسمة مساحتها ٢٧٧٦ ميل مربع. وبذلك يُعتبر لي كوان يو أسطورة من سحر الماضي ومجد المستقبل إستطاع لي كوان يو باني النهضة السنغافورية أن يخمد كل تلك النزاعات العرقية داخل البلد حيث وحّد اللغة وجعل أولويات الوطن هي الأولى وطبَّقها على جميع الطبقات الدينية والعرقية وأن الوطن ملك الجميع.
التجارب الملهمة في الإقتصاد والتنمية عديدة تختلف في طرقها ولكن تتفق في القيادة الرشيدة والفكرة والإهتمام بالتنشئة والإستفادة من القُدرات البشرية وهذا ما نفتقده في دول العالم الثالث التي يسيطر عليها عدم الوعي والخلافات والإختلافات وكل تلك الدول التي حدثت فيها تطور أذهلت الإنسانية كانت تعُاني من مشكلات مشابهة لحالنا في السودان ولم يشهد العالم مأساة انسانية إلاّ في رواندا التي تحتل حالياً المرتبة الأولى صناعياً في إفريقيا، لقد تجاوزت تلك الشعوب خلافاتها بالتحاور وإزالة جذور المشاكل ونجحت في ربط نسيجها الإجتماعي وتوجيهها نحو الإنتاج والإنتاجية، فقد أثبتت تلك الدول أن الإعتماد على العنصر البشري أفضل من الإعتماد على الموارد‘ فقد نهضت الدول التي لاتمتلك موارد وبيّنت الدراسات أن طلاب سنغافورة وفنلندا وكوريا وهونغ كونغ واليابان حققوا أفضل النتائج بالرغم من خلو دولهم من الموارد الطبيعية، بينما حقق طلاب الثانويات في الكويت وسوريا والجزائر وإيران أسوأ النتائج وتبقى كل الدراسات والتجارب السابقة تشير لحقيقة هي ليس شرطاً أن تمتلك الدولة إحتياطي من النفط والغاز والماس وكل ذلك سيكون بلاجدوى أذا لم يُستغل بطريقة صحيحة .
ويبقى السؤال المهم في كيفية الإستفادة من التجارب السابقة في تنمية وتطوير السودان خاصاً ومايتمتع به من موارد وتنوع بشري وموقع جغرافي مميز بيد أن كل تلك الإمكانيات سيئة الإستخدام مما حال دون الإستفادة منها في تنمية وتطوير مقدرات البلاد، فالحاجة لقيادة فاعلة وحكيمة (تصنع من الفسيخ شربات) ضرورية ولايتم ذلك إلاّ بصناعة جيل جديد من الكفاءات والمهنيين ينهض بالدولة .